خطبة يوم الجمعة عن النفاق خطب عن النفاق الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الخطبة الأولى
عباد الله، تفكروا في الأمراض المهلكة، والأوبئة الفتاكة، والجراثيم الضارة والكوارث المدمرة؛ كيف يتقي الناس أسبابها، ويعدون لها الأدوية الناجعة، ويرصدون لها المبالغ الطائلة، وينقذون المرضى والمصابين مما نزل بهم، ومما قد ينـزل بهم.
إخوة الإيمان، إنَّ أعظم الأمراض هو مرض النفاق وشُعبِه؛ فهو مرض خطير وشر كبير إذا استولى على القلب أماته، وصار صاحبه حياً كميت، وصحيح البدن مريض الروح، قال الله – تعالى – في المنافقين: ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة:10].
النفاق داء عضال ووباء قتَّال لا يبتلى به إلا من أظهر الإسلام، أما الكافر فلا يوصف بالنفاق؛ لأنه مجاهر بكفره، والكفر مشتمل على أنواع النفاق كلها.
وقد خاف من النفاق المؤمنون ووجل منه الصالحون؛ قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: (أدركت ثلاثين من الصحابة كلهم يخاف النفاق على نفسه). وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لحذيفةَ رضي الله عنه: (أنشدك الله هل ذكرني رسول الله من المنافقين؟ قال: لا، ولا أزكي بعدك أحداً). ويقصد حذيفة أنه لا يريد يفتح باب السؤال لغير عمر.
وقال الحسن البصري – رحمه الله -: (لا يأمنُ المؤمنُ النفاقَ على نفسه)، وقال الإمام أحمد: (ومن يأمن النفاق)، وقال (ومن نجا من النفاق فقد نجا من شرور الدنيا وعذاب الآخرة، ومن وقع في شَرَكِ النفاق خسر الدنيا والآخرة، قال الله – تعالى – عن المنافقين: ﴿ فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 55].
والنفاق نوعان: النوع الأول: نفاقُ اعتقاد؛ ويُسمَّى النفاق الاعتقادي، وهو مخرج من ملة الإسلام.
ويراد بنفاق الاعتقاد: اعتقاد المرء ما يضاد الإسلام ولو عمل بأركان الإسلام بجوارحه؛ لأن الأعمال لا يقبل الله منها إلا ما كان مبنياً على الإيمان؛ فنفاق الاعتقاد: هو أن يظهر الإسلام ويبطن الكفر، قال – تعالى -: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 8 – 9].
وصاحب النفاق الاعتقادي مخلد في النار -والعياذ بالله-، قال الله – تعالى -: ﴿ يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ * يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ * فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ [الحديد: 12-15].
وقد تتبع المحققون من أهل العلم الأدلة من القرآن والحديث، واستقرأوا النصوص التي ذكرت أقسام النفاق الاعتقادي المخرج من الإسلام؛ فوجدوا أن النفاق الاعتقادي يأتي في عدة صور؛ منها: بغض الرسول وكراهته صلى الله عليه وسلم فمن أبغض النبي محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كفر ولو عمل بأركان الدين؛ قال الله – تعالى -: ﴿ إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ ﴾ [التوبة: 50] وقال – تعالى -: ﴿ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [المنافقون: 4] والعدو هو المبغض الفرح بالمصيبة الكاره للنعمة.
ومن صور نفاق الاعتقاد: بغضُ وكراهة ما جاء به النبي محمد صلى الله عليه وسلم قال – تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ ﴾ [محمد: 8-9] وقال – تعالى -: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ ﴾ [محمد: 25-26].
ومن نفاق الاعتقاد المكفر: تكذيبُ النبيِّ محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- ﴿ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10] (في قراءة: يُكذِّبون)، وقال – تعالى -: ﴿ وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [التوبة: 124-125]، فتكذيبهم زادهم نَجَسًا ونفاقا وخُبثا.
ومن نفاق الاعتقاد المضاد للإسلام: تكذيبُ بعض ما جاء به النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم ، قال الله – تعالى -: ﴿ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة: 85].
ومن نفاق الاعتقاد: الفرحُ بضعف الإسلام، والسرور بتمرد الناس عليه، وتمني الانفلات من تعاليمه، والكراهة لظهور هدي الرسول صلى الله عليه وسلم وعلو دينه، قال الله – تعالى -: ﴿ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ﴾ [التوبة: 48]، وقال تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [التوبة: 67].
فصاحب هذا النفاق الاعتقادي في الدرك الأسفل من النار، سواء اجتمعت فيه هذه الأنواع كلها، أو وقع في واحد منها إلا أن يتوب إلى الله – تعالى -، لأن الضررَ من المنافق أشدُّ من الضرر بالكافر المجاهر. ولذلك كان لصاحبه أشد العذاب إذا مات عليه، قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ﴾ [النساء: 145].
عباد الله، وأما النوع الثاني من أنواع النفاق فهو النفاق العملي وهو: أن يعمل بخصلة من خصال النفاق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو مع ذلك يؤمن بالله واليوم الآخر، ويحب الإسلام ويعمل بأركانه، فهذا قد ارتكب معصية بوقوعه في هذه الخصلة من خصال النفاق العملي، ولا يُكَفَّر بها، وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربعٌ مَنْ كُنَّ فيه كان منافقاً خالصا، ومَنْ كانتْ فيه خصلةٌ منهن كانتْ فيه خصلةٌ مِنَ النفاقِ حتى يدَعَها: إذا حدَّث كذَب، وإذا وَعدَ أخْلف، وإذا اؤتمنَ خَان، وإذا خاصمَ فجَر) رواه البخاري ومسلم ومعنى: (إذا خاصم فجر): طلب أكثر من حقه، وادعى ما ليس له، أو لم يعطِ ما عليه من الحق. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (آيةُ المنافِقِ ثلاث: إذا حدَّثَ كذَب، وإذا وَعَدَ أخْلف، وإذا اؤتمن خان) رواه مسلم.
فهذه الخصال إذا فعلها المسلم وهو عامل بأركان الإسلام محب له؛ فمعصيته نفاقٌ عملي وليس باعتقادي، وخصال النفاق العملي أكثر من هذه الخصال؛ لأن شعب النفاق تقابل شعب الإيمان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الإيمانُ بضعٌ وسبعونَ شُعبة فأعلاها (لا إله إلا الله)، وأدْناهَا إمَاطةُ الأذى عنِ الطرِيق) رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
وإذا لم ينزجر المسلم، ويكفَّ عن خصال النفاق العملي ويتب إلى الله منها؛ استحكمت فيه وربما جرّته إلى النفاق الاعتقاد، قال الله – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119] أي مع المؤمنين.
جعلنا الله من الصادقين، وأعاذنا من النفاق وشر المنافقين، أقول قولي هذا؛ وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.
2 خطبة
عباد الله: إن الذنوب مهما عظُمت ومهما كثُرت؛ فإنها في جانب رحمة الله مغفورة بالتوبة إلى الله – تعالى -.
وقد فتح للمنافقين باب التوبة فقال – تعالى -: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً ﴾ [النساء: 145-146].
فيا أيها المسلم:
إنِ ابْتليتَ بشيء من خصال النفاق؛ فتب إلى الله – تعالى -، وطهر نفسك قبل الممات، وادع الله – تعالى – أن يحفظك من النفاق وشعبه؛ فإن الله – تبارك وتعالى – قريب مجيب، فمن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذُ بك من النِّفاق والشِّقاقِ وسوءِ الأخلاق)، وفي الدعاء: (اللهمَّ طهِّرْ قلوبَنَا من النفَاق، وأعمالَنا من الرِّياء، وأعينَنا من الخيانة).
اللهم ارزقنا أيمانا صادقا، وعملا صالحا متقبلا.
اللهم إنا نعوذ بك من النفاق كبيره وصغيره، ونعوذ بك شر ومكر وكيد المنافقين.
قلق الانسان من النفاق
أيها الأخوة الكرام: أعيد عليكم المقدمة، ما ذكرت صفات المنافقين في هذه الخطبة إلا ذكراً تحذيرياً، فإن تلبست هذه الصفة بإحدانا فعليه أن يبادر إلى أن يتصف بعكسها و الأمر بيده، مادام القلب ينبض، مادام في العمر بقية باب التوبة مفتوح على مصراعيه، و أن تخشى أن تكون منافقاً هذه علامة طيبة، إنها علامة الإيمان، بل إن بعضهم يقول: المؤمن يتقلب في اليوم الواحد في أربعين حالاً، بينما المنافق يبقى في حال واحد أربعين عاماً، فحينما تقلق على نفسك، حينما تظن أن بعض صفات المنافقين متلبسة بك العبرة أن تحذر، العبرة أن تبادر، العبرة أن تتحرك، العبرة أن تجدد إيمانك، و ما أحد أفضل من أحد، نحن جميعاً و أنا معكم معنيون بهذا الخطاب، إن قلقنا نقلق جميعاً، و إن خفنا نخاف جميعاً، و إن اطمأننا نطمئن جميعاً، فالعبرة أيها الأخوة أن يكون هذا الموضوع باعثاً لنا على أن نتحرك إلى الله، على أن نفر إليه، على أن نعقد الصلح معه، على أن نتوب إليه، على أن نمرغ جباهنا على أعتابه، ليست العبرة التيئيس لكن الشيء الخطر هو النفاق، المؤمن واضح، و الكافر واضح، و الكافر مكشوف هو كشف نفسه، هو لا يستحيي بكفره، من الذي يمكن أن يضلك؟ المنافق، يصلي كما تصلي، و يصوم كما تصوم، هو معك لكن نفسه مع الشيطان، نفسه غارقة في الدنيا، فلذلك الإنسان ينبغي أن يقلق أو أن يحذر أن يكون فيه صفة من صفات النفاق، و لكن النفاق الاعتقادي هذا كفر بل أشد من الكفر، و المنافق اعتقادياً في الدرك الأسفل من النار:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾
[ سورة البقرة: الآية 18]
ليس الحديث عن هؤلاء، الحديث عن النفاق نفاق الضعف، الضعف أمام الشهوات أو الحيرة أمام الشبهات، الحديث عن النفاق العملي، عن النفاق الذي يرجى البرء منه، عن النفاق الذي يتاب منه، هذا هو الحديث، فأرجو الله سبحانه و تعالى أن نتابع هذا الموضوع في الأسبوع القادم، و الحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، و أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
البشر ثلاثة أصناف؛ مؤمن و كافر و منافق
أيها الأخوة الكرام، الذين خلقهم الله عز وجل من بني البشر ينتمون إلى أصناف ثلاث ورد ذكرهم في مطلع سورة البقرة:
﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾
[ سورة البقرة الآيات:3-5 ]
والصنف الثاني هم الكفار، والصنف الثالث هم المنافقون، وصف المؤمنين مقتضب وجامع مانع وموجز، لأنهم واضحون، ووصف الكفار مقتضب وموجز وجامع مانع، لأنهم واضحون، هذا آمن علانيةً فاتبع منهج الله عز وجل، وهذا كفر علانيةً، فاتبع هوى نفسه، إلا أن المنافقين وردت أوصافهم في ثلاث عشرة آية، فمحور الخطبة اليوم هذا الصنف الثالث المحير، تعجب منه، تارةً تراه بين المؤمنين، وتارةً تراه بين الكفار والفجار، يرضي هؤلاء، ويرضي هؤلاء، هو لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، هذا الصنف أخطر صنف على المسلمين، يقولون ما تعرفون وتنكر عليهم ما يفعلون.
خطر المنافقين
فيا أيها الأخوة الكرام، ورد في القرآن الكريم ذكر النفاق في أكثر من سبع وثلاثين آية، وفي عدة سور منها سورة آل عمران، والحشر، والتوبة، والأحزاب، والفتح، والحديد، والأنفال، والمنافقون، والنساء، والعنكبوت، والتحريم، هذا دليل أيها الأخوة على خطر هذه الفئة، قبل أن أتابع الحديث عن النفاق والله أيها الأخوة ما من شيء يخيف في بعض الخطب إلا أخاف معكم، وما من شيء يطمئن إلا أطمئن معكم، وأنا معني بهذه الخطبة قبلكم، كلمة الحق قاسية، كلمة الحق مرة، والحقيقة المرة كما أقول لكم دائماً أفضل ألف مرة من الوهم المريح، بل إن الإنسان حينما يخاف أن يكون منافقاً هذه حالة طيبة جداً يقول بعض التابعين: التقيت بأربعين صحابياً، ما منهم واحد إلا ويظن نفسه منافقاً، المنافق لا يعلم أنه منافق يظن أنه مؤمن، لكن المؤمن الحق يخشى، ويتوهم، ويظن أنه منافق، فأن تخاف أن تكون منافقاً هذه حالة طيبة.
النفاق نوعان؛ نفاق كفر ونفاق ضعف
لكن أيها الأخوة، لابد من شرح دقيق، النفاق نوعان: نفاق كفر ونفاق ضعف، نفاق الكفر هؤلاء في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء كفار، لكن مصالحهم تقتضي أن يكونوا مع المسلمين أو مع المؤمنين، هذا النفاق الأول، النفاق الاعتقادي، النفاق الذي يخرج من الملة، لا يعنينا في هذه الخطبة، هؤلاء كفار، ولكن مصالحهم تقتضي أن يكونوا مع المؤمنين.
ولكن النفاق الآخر نفاق الضعف يضعف أمام شهواته، أو يحار أمام الشبهات التي فيه، هو بين شهوات تغلبه وبين شبهات تحيره، هذا النفاق سماه بعض العلماء النفاق العملي.
من كتاب الله في الأعم الأغلب ومن بعض الأحاديث الشريفة الصحيحة استنبط بعض العلماء ثلاثين صفةً للمنافقين، إن ذكرناها ينبغي أن نخاف، أن نخاف أن تنطبق علينا بعض هذه الصفات، وهذا الذكر كما يسميه علماء التربية ذكر تحذيري ينبغي أن تقلق، ينبغي أن تتهم نفسك، ينبغي أن تبادر إلى أن تزيح هذه الصفة عن نفسك، هناك ثلاثون صفةً مستنبطةً من كتاب الله، ومما صحّ من حديث رسول الله للمنافقين، فإن كانت لا سمح الله ولا قدر قد تنطبق على بعض المؤمنين فينبغي أن يبادر من فوره إلى أن يصحح إيمانه، وإن كانت لا تنطبق فهذا من فضل الله عليه، أذكرها تحذيراً لا أذكرها اتهاماً، فإن انطبقت علينا فينبغي أن نخاف، وعلامة إيماننا أن نخاف، وينبغي أن نتحرك، وعلامة إيماننا أن نتحرك، وينبغي أن نسارع إلى تجديد إيماننا، وإن لم تنطبق علينا شكرنا الله عز وجل.
على كلٍّ صحابة كرام عاشوا مع سيد الأنام، واتهموا نفسهم بالنفاق، بل إن خليفة من الخلفاء الراشدين سيدنا عمر بن الخطاب جاء حذيفة بن اليمان قال له: بربك اسمي مع المنافقين؟ وهو المبشر بالجنة، فإذا وجدت صفةً تنطبق عليك لا تقلق، إن قلقت فهذه علامة طيبة، بادر وصحح، وأنا معني قبلكم بهذه الخطبة، وأنا أخاف كما تخافون، وأحذر كما تحذرون.
صفات المنافق
1 ـ الكذب :
أيها الأخوة الكرام، أولى صفات المنافق الكذب، الكذب ركن من أركان الكفر والنفاق، إن الله إذا ذكر النفاق في القرآن ذكر معه الكذب، وإذا ذكر الكذب ذكر معه النفاق، قال تعالى:
﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾
[ سورة البقرة الآيات:9-10 ]
﴿ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴾
[ سورة المنافقون: الآية 1]
أولى صفات المنافق الكذب، وأولى صفات المؤمن الصدق، المؤمن لا يكذب، سيدنا جعفر قال للنجاشي: “كنا قوماً أهل جاهلية نأكل الميتة، ونعبد الأصنام، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته وصدقه وعفافه”.
المؤمن لا يكذب:
((آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ ))
[ البخاري، مسلم، الترمذي، النسائي، أحمد عن أبي هريرة ]
مازحاً جاداً، كذب لأمر لحيلة فيه شعبة من النفاق، وما كذب إلا لنفاق في قلبه، الكذب علامة واضحة تشهد على صاحبها بالنفاق ولو كان مازحاً.
هناك أناس يمزحون فيكذبون ليضحكوا الناس يقول عليه الصلاة والسلام:
((ويْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ الْقَوْمَ ثُمَّ يَكْذِبُ لِيُضْحِكَهُمْ وَيْلٌ لَهُ وَوَيْلٌ لَهُ))
[ أحمد عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ]
والكذاب أيها الأخوة ملعون سواء أكان جاداً أو مازحاً فلينتبه إلى هذه الخصلة.
الغدر
العلامة الثانية: الغدر، يقول عليه الصلاة والسلام:
((وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ))
من أعطى عهداً لرجل أو لامرأة أو لولد أو لصديق أو لولي أمر، ثم خانه أو غدره بلا سبب شرعي فهذه علامة وركن من أركان النفاق، المؤمن لا يغدر.
الفجور في الخصومات
العلامة الثالثة، الفجور في الخصومات لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيحين:
((وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ))
قال أهل العلم: من خاصم مسلماً ثم فجر في خصومته فقد أشهد الله على ما في قلبه أنه فاجر منافق.
الإخلاف في الوعد
العلامة الرابعة، الإخلاف في الوعد، يذكر أيها الأخوة في السير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد تقبل التحسين أنه وعد رجلاً أن يلاقيه، فأتى عليه الصلاة والسلام للموعد فأخلف ذلك الرجل، فبقي عليه الصلاة والسلام في المكان ثلاثة أيام بلياليها، ثم تذكر الرجل فجاء فقال له: يا أخي لقد شققت علي أنا هنا منذ ثلاث.
إخلاف الوعد علامة نفاق، هناك من يخلف الوعد ولا يبالي، ولا يأبه أن رجلاً يقف له في الطريق ينتظره، أنه يجلس في البيت يستعد لاستقباله، أنه ألغى بعض المواعيد من أجله، أنه اقتطع من وقته الثمين وقتاً لتلبية رغبته ثم ينسى.
أيها الأخوة الكرام، حينما تسافر إلى بلد غربي تجد دقة المواعيد، أعجبتني كلمة قالها بعض العلماء قال: هذا انضباط نفعي، لكن المؤمن انضباطه تعبدي، وشتان بين الانضباط النفعي والانضباط التعبدي، الانضباط النفعي من أجل الدنيا لكن الانضباط التعبدي من أجل الآخرة، الانضباط النفعي صاحبه ما له في الآخرة من خلاق.
الكسل في العبادة
العلامة الخامسة: الكسل في العبادة، قال تعالى:
﴿ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى ﴾
فإذا رأيت الإنسان يتكاسل عن الصلاة، أو عن الصف الأول، أو عن الذكر، أو عن الدعوة، أو عن طلب العلم، أو عن مجالس الخير، فاعلم أن في نفسه ضعفاً، وأن الشيطان يريد أن يبعده عن طريق الإيمان، جاء في صحيح مسلم من حديث الأسود بن يزيد العراقي العابد قال: قلت لعائشة:
((متى كان صلى الله عليه وسلم يستيقظ لصلاة الليل – أي لقيام الليل – قالت: كان صلى الله عليه وسلم يثب وثباً))
وما قالت يقوم قياماً إنما يثب وثباً، وهذا يدل على الشجاعة، وعلى الحيوية والنشاط وحرارة الإيمان وعلى قوة الإرادة.
الإمام أحمد في كتاب الزهد يترجم لعدي بن حاتم ينقل قوله: “والله ما قربت الصلاة إلا كنت لها بالأشواق”.
وقال سعيد بن المسيب: “ما أذن المؤذن من أربعين سنةً إلا وأنا في مسجد رسول الله”.
وإذا رأيت الرجل في الروضة وفي الصف الأول فاشهد له بالإيمان لأنه:” من رأيتموه يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان، إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر”.
المراءاة
أيها الأخوة الكرام: والعلامة السادسة للنفاق المراءاة، يقول الله عز وجل:
﴿ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
وفي الصحيحين:
((من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به))
أي يعطيه سؤله، يثني عليه الناس لأنهم يعلمون الظاهر، وما قيمة ثناء الناس إذا كان الله ليس راضياً عن هذا الإنسان؟ لو أن أهل الأرض كلهم أثنوا على إنسان، ولم يكن كما يريد الله عز وجل لا ينفعه هذا الثناء، المرائي يخشع أمام الناس في الصلاة ولا يخشع في الصلاة في بيته، هناك فرق كبير بين عبادته منفرداً وبين عبادته مع الناس، فقد قال عليه الصلاة والسلام:
((ليأتين أقوام يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضاً يجعلها الله هباءً منثوراً، قال الصحابة: يا رسول الله أليسوا مسلمين؟ قال: بلى، يصلون كما تصلون، ويصومون كما تصومون، ولهم فضول أموال يتصدقون بها، وكان لهم حظ من الليل لكنهم كانوا إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها ))
علامة المنافق الرياء، يرائي الناس، يريد أن يروا الناس عمله، يريد أن ينتزع إعجابهم، له خلوة وله جلوة، له سريرة وله علانية، له ظاهر وله باطن، له شيء يعلنه وشيء لا يعلنه.
ورد أيها الأخوة في الحديث الصحيح القدسي أن الله جل جلاله يقول:
(( أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ، مَنْ عَمِل عَمَلا أشرك فيه مَعي غيري تركتهُ وشِرْكَهُ ))
فالله سبحانه وتعالى لا يقبل عمل فيه شرك ويقول عليه الصلاة والسلام:
((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا يا رسول الله وما الشرك الأصغر ؟ قال الرياء ))
الرياء أيها الأخوة: دخل في النفقة، أحياناً هناك جمع كبير يتبرع أما قد يكون له قريب يتضور جوعاً، فإذا أعطى هذا القريب لا أحد يعلم بهذا العطاء، إذاً هناك رياء في الإنفاق، رياء في الصلاة، رياء في الذكر، رياء في الذكر، رياء في الصيام.
المؤمن أيها الأخوة يعلم علم اليقين أن ما سوى الله لا ينفع ولا يضر، ولا يمرض ولا يشفي، ولا يحيي ولا يميت، ولا يرزق ولا يمنع، ولا يثيب ولا يعاقب، وأن يعرف المرء أيضاً أن المخلوق ضعيف هزيل، لا يملك لك نفعاً ولا ضراً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، ولا أجراً ولا عقوبةً، والأمر الثالث أن تدعو بهذا الدعاء: “اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم وأستغفرك مما لا أعلم”.
أيها الأخوة الكرام: من أدعية الإمام الحسن البصري: “اللهم إني أعوذ بك من الرياء والسمعة، اللهم اغفر لي ريائي وسمعتي”.
فالسمعة طلب الذكر الحسن عند الناس والعمل من أجل الشهرة.
يذكر الله ذكراً قليلاً
أيها الأخوة: من علامات المنافق أنه يذكر الله ذكراً قليلاً قال تعالى:
﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾
[ سورة النساء: الآية 142]
صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً ))
[ مالك عن أنس بن مالك]
من علامات الإيمان كثرة ذكر الله عز وجل، لذلك قالوا:
(( من أكثر ذكر الله فقد برئ من النفاق ))
[ أخرجه الطبراني في الصغير عن أبي هريرة ]
(( برئ من الشح من أدى زكاة ماله ))
[أخرجه الطبراني عن جابر بن عبد الله ]
(( وبرئ من الكبر من حمل حاجته بيده ))
[رواه القضاعي والديلمي عن جابر مرفوعا وهو عند ابن لال عن أبي أمامة. وفي لفظ بضاعته بدل سلعته، والشرك بدل الكبر، قال ابن الغرس ضعيف]
قيل لأحد علماء الحديث ما حد ذكر الله الكثير؟ قال: من حافظ على الأذكار المأثورة عن معلم الخير فقد ذكر الله ذكراً كثيراً، أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أذكار صحيحة كان يذكرها إذا دخل بيته، وإذا خرج من بيته، وإذا دخل إلى المسجد، وإذا خرج منه، من حافظ على الأذكار المأثورة عن معلم الناس الخير فقد ذكر الله ذكراً كثيراً.
ومن حافظ على الأذكار أدبار الصلوات في الصباح والمساء، مع الطعام والشراب، مع النوم، مع الاستيقاظ، مع رؤية البرق، مع سماع الرعد، مع نزول الغيث، مع دخول المسجد، فقد ذكر الله ذكراً كثيراً.
ونسب إلى ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: “من ذكر الله في الحل والترحال، في الإقامة والظعن، في الصحة والمرض فقد ذكر الله كثيراً”.
وعند الترمذي أن رجلاً قال:
((يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علي فأخبرني بشيء أتشبث به؟ قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله))
[ الترمذي عن عبد الله بن بشر]
وعند مسلم في الصحيح قال عليه الصلاة والسلام:
((لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس))
[ مسلم عن أبي هريرة]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((سبق المفردون قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات ))
نكر الصلاة
العلامة الثامنة: نكر الصلاة، تلك صلاة المنافق يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في المدارج: “يصلي المصلي بجانب أخيه في صف واحد وراء إمام واحد، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض، لأن هذا في قلبه إخلاص، وحب، وأشواق، ومراقبة، وخشية، وفي قلب هذا شرود، وبعد، وموت، والعياذ بالله” قال تعالى:
﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ*الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ﴾
لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين
العلامة التاسعة: لمز المطوعين من المؤمنين والصالحين، يلمز، ينتقد، يبخس، يسيء الفهم، يتهم اتهاماً باطلاً بلا دليل، يشوه الصورة، لا يقبل عملاً صالحاً إلا أن يفسده، لا تدرون ما نيته، لا يقبل دعوة خالصة إلا أن يفسدها، فهذا الذي يهمز ويلمس وينتقد بلا دليل بلا بيان لمجرد التشفي هذا من صفات المنافقين.
الاستهزاء بالقرآن والسنة
أيها الأخوة الكرام: الاستهزاء بالقرآن والسنة هذا من صفات المنافقين، قال تعالى:
﴿ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾
11 ـ كثرة الحلف :
والعلامة الحادية عشرة: كثرة الحلف، قال تعالى:
﴿ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً﴾
إذا سألته حلف، أسهل شيء عليه أن يحلف باليمين وهو كاذب، ولاسيما في البيع والشراء، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
﴿ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ * وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ ﴾
يكثر الحلف بسبب وبغير سبب، بمبرر وبغير مبرر.
12 ـ الإنفاق كرهاً :
العلامة الثانية عشرة: الإنفاق كرهاً، ينفق المال مضطراً، ينفق المال خجلاً، ينفق المال ويتمنى ألا ينفق، لكن المؤمن ينفق المال ونفسه طيبة بإنفاقه، ينفق المال ويشكر الله على أن مكنه أن ينفق، ينفق المال ويتمنى أن ينفق أضعاف الذي أنفق.
13 ـ التخذيل :
العلامة الثالثة عشرة: التخذيل، دائماً يضعك في اليأس، المسلمون انتهوا، الطرف الآخر أقوياء لا نستطيع أن نواجههم، لو أن إنساناً أحرز شيئاً ما سوف يضرب، سوف يمحق، لا يسمحون له أن يكون كذلك، دائماً يتشاءم، دائماً يدافع عن الطرف الآخر، يشيد بقوتهم ويزدري قوة المسلمين، يشيد بتفوقهم ولا يرى تفوق بعض المسلمين، دائماً يخذل، دائماً يضعف الهمة، دائماً يثبط، متشائم.
لو رآك تذهب إلى مجلس علم مالك ولهذا المجلس؟ دعك من هذه المجالس، كل ما فيها كلام معاد، إن رآك تنفق مالاً دعك من إنفاق المال، اجعل هذا المال لصالحك، ولصالح أولادك، إن رآك متحمساً لقضية ما شأنك بهذا الموضوع؟ دائماً يخذل، هذا المنافق.
لو رأيت نصراً مكّن الله به بعض المسلمين يقول لك:هذا النصر لا يستمر، سرعان ما يضربونه، هو لا يرى، أو لا يتمنى أن تقوم للمسلمين قائمة.
14 ـ الإرجاف :
الإرجاف، والإرجاف من علامة النفاق يقول الله عز وجل:
﴿ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ﴾
أيها الأخوة الكرام: الإرجاف المبالغة، يبالغ في نقاط الضعف حتى يثبط العزائم، بين الإرجاف والتخذيل، علاقة الإرجاف المبالغة بقوة العدو، المبالغة بضعف المسلم، المبالغة باليأس منه، المبالغة في إضعاف قوته.
15 ـ الاعتراض على القدر :
والعلامة الخامسة عشرة: الاعتراض على القدر، قال تعالى:
﴿ الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا﴾
أي حينما تعمل عملاً صالحاً ويمتحنك الله بهذا العمل فيبتليك بشيء، و هذا من بطولة الإنسان المنافق الذي لا يعمل يراها نعمة، يرى أن الله سبحانه و تعالى أنعم عليه إذ صرف عنه هذا البلاء، هذا البلاء لولا أن هذا المؤمن دعا إلى الله، و بذل جهداً في سبيله لما ابتلي بهذا البلاء، فالمنافق يشكر الله على أن لم يكن معهم شهيداً:
﴿ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا ﴾
هو يعترض على قضاء الله و قدره، يقول عليه الصلاة و السلام:
((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير، إن أصابته سراء شكر، فكان له خير، و إن أصابته ضراء صبر، فكان له خير، و ليس ذلك لغير المؤمن ))
سيدنا عمر يقول: و الله ما أبالي أمطية الفقر ركبت أم مطية الغنى، لكل شيء حقيقة، و ما بلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه، المؤمن راض بقضاء الله و قدره، المؤمن مستسلم لقضاء الله و قدره.
على الإنسان أن يقلق أن يكون فيه صفة من صفات النفاق :
أيها الأخوة الكرام: أعيد عليكم المقدمة، ما ذكرت صفات المنافقين في هذه الخطبة إلا ذكراً تحذيرياً، فإن تلبست هذه الصفة بإحدانا فعليه أن يبادر إلى أن يتصف بعكسها و الأمر بيده، مادام القلب ينبض، مادام في العمر بقية باب التوبة مفتوح على مصراعيه، و أن تخشى أن تكون منافقاً هذه علامة طيبة، إنها علامة الإيمان، بل إن بعضهم يقول: المؤمن يتقلب في اليوم الواحد في أربعين حالاً، بينما المنافق يبقى في حال واحد أربعين عاماً، فحينما تقلق على نفسك، حينما تظن أن بعض صفات المنافقين متلبسة بك العبرة أن تحذر، العبرة أن تبادر، العبرة أن تتحرك، العبرة أن تجدد إيمانك، و ما أحد أفضل من أحد، نحن جميعاً و أنا معكم معنيون بهذا الخطاب، إن قلقنا نقلق جميعاً، و إن خفنا نخاف جميعاً، و إن اطمأننا نطمئن جميعاً، فالعبرة أيها الأخوة أن يكون هذا الموضوع باعثاً لنا على أن نتحرك إلى الله، على أن نفر إليه، على أن نعقد الصلح معه، على أن نتوب إليه، على أن نمرغ جباهنا على أعتابه، ليست العبرة التيئيس لكن الشيء الخطر هو النفاق، المؤمن واضح، و الكافر واضح، و الكافر مكشوف هو كشف نفسه، هو لا يستحيي بكفره، من الذي يمكن أن يضلك؟ المنافق، يصلي كما تصلي، و يصوم كما تصوم، هو معك لكن نفسه مع الشيطان، نفسه غارقة في الدنيا، فلذلك الإنسان ينبغي أن يقلق أو أن يحذر أن يكون فيه صفة من صفات النفاق، و لكن النفاق الاعتقادي هذا كفر بل أشد من الكفر، و المنافق اعتقادياً في الدرك الأسفل من النار:
﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ﴾
ليس الحديث عن هؤلاء، الحديث عن النفاق نفاق الضعف، الضعف أمام الشهوات أو الحيرة أمام الشبهات، الحديث عن النفاق العملي، عن النفاق الذي يرجى البرء منه، عن النفاق الذي يتاب منه، هذا هو الحديث، فأرجو الله سبحانه و تعالى أن نتابع هذا الموضوع في الأسبوع القادم، و الحمد لله رب العالمين.
* * *
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، و أشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، و أشهد أن سيدنا محمداً عبده و رسوله، صاحب الخلق العظيم، اللهم صلِّ و سلم و بارك على سيدنا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
ما يجدر بالمؤمن أن يفعله في رمضان :
أيها الأخوة الكرام: نحن مقبلون على شهر الصيام، و كان عليه الصلاة و السلام يكثر من تلاوة القرآن في رمضان، لكن إذا قرأت القرآن و أتيت على قوم:
﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنْ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾
فاسأل نفسك هل أنت منهم؟ كلما مررت على قوم وصفهم الله بوصف، كن جريئاً، واسأل نفسك هل أنت من هؤلاء؟ قد تمر على قوم متفوقين، إن لم تكن منهم اسع أن تكون منهم، وقد تمر على قوم لا سمح الله في القرآن مجرمين، اشكر الله على أنك لست منهم، و قد تمر على قوم خلطوا عملاً صالحاً و آخر سيئاً لعلك تقول هذه الآية تنطبق علي؟ ما الذي يمنع أن تخلص منها؟ أن تخلص من هذا الوصف، أن تتلافى التقصير، أي إذا قرأت القرآن حاول أن تسأل نفسك دائماً أين أنت من هذه الآية؟ هل هي منطبقة عليك إذا كان فيها وصف حسن أو لا تنطبق عليك و هذا من فضل الله عليك إن كان فيها وصف سيئ؟ أو أن آية تجمع بين حالة وسطى أنت فيها؟ اسأل نفسك أين أنت من هذه الأوصاف؟ أين أنت من هذه النماذج؟ فهذا مما يجدر بالمؤمن أن يفعله في رمضان، فلعل الله سبحانه و تعالى ينقيه من الذنوب و العيوب.