للصّلاة منزلة عظيمة عند المسلمين؛ فهي أهمُّ وأرفع دعائم الإسلام الأساسيّة، وهي ثاني أركان الإسلام الخمس التي حثَّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- على التَّمسك بها، وعدم التقصير في أدائها، وتطبيقها على أكمل وجه، كما تُعدّ الصّلاة ارتباطاً بين العبد وخالقه، فإذا ما أراد عبدٌ سؤال خالقه أمراً أهمَّه، بادر إلى الصّلاة يُناجيه ويدعوه ويتضرَّع إليه أن يُلبّي له مطلبه. وقد كان من أهميّة الصّلاة أنَّ فرضيّتها على المسلمين لم تكن كسائر العبادات بل إنّ المولى -عزَّ وجلّ- حين فرض الصّلاة، استدعى نبيّه محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، ففرضها عليه وعلى أمّته في السماء السابعة،[١] فما معنى الصّلاة لُغةً، وما معناها اصطلاحاً، وما هي الكيفيّة التي تتمّ الصّلاة بها؟ هذا ما ستُجيب عنه المقالة بعد توفيق الله
مفهوم الصّلاة لُغةً واصطلاحاً
الصّلاة في اللغة تعني الدُّعاء، وجمعها صَلَوات، وتعني الصّلاة في اللغة كذلك: الدّين والعبادة، ويعود أصل لفظ الصّلاة إلى الفعل صلَّى يُصلِّي، والأمر منها صَلِّ، والمصدر صَلاةٌ، ولا يُقال هنا: صلّى تصليةً، ويُقال: صلّى فهو مُصَلٍّ، وصلّى صلاةً؛ أي أدّى الصّلاة، والصّلاة كذلك تعني الرحمة، والصّلاة عبادةٌ وشعيرةٌ مخصوصةٌ لها أَوقات مخصوصة.[٢]
والصّلاة لا تبعُد في معناها الاصطلاحيّ عن المعنى اللغويّ؛ فهي عبادةٌ ودعاءٌ ورحمةٌ، أمّا تعريفها في الاصطلاح فهي: عبادةٌ لله -سبحانه وتعالى- ضمنَ أقوال وأفعال مخصوصة مُحدَّدة، تُفتَتَح بالتكبير، وتُختَتَم بالتسليم، وسبب تسميتها بالصّلاة أنّها تشتمل على الدعاء والتَّضرع إلى الله؛ فالصّلاة في حقيقتها وأصل معناها هي اسمٌ لكلّ دعاء، ثمَّ لمّا تعلَّق الأمر بالصّلاة بمعناها الاصطلاحيّ السابق أصبحت عبارةً عن اسمٍ لدعاء مخصوص؛ حيث كانت الصّلاة اسماً للدُّعاء عمومًا، ثمّ أصبحت تعني الصّلاة الشرعيّة؛ بسبب الترابط والعلاقة الوثيقة بينها وبين الدّعاء، لذلك فإنّ المعنى اللغوي للصّلاة لا يبتعد عن معناها الاصطلاحيّ، فمتى أُطلِق اسم الصّلاة شرعاً فلن يدلَّ ذلك إلا على الصّلاة المشروعة؛ فالصّلاة كلّها دعاء.[٣
حُكم الصّلاة
لا خلاف بين اثنين من العلماء على وجوب الصّلاة وفرضيّتها؛ فهي واجبةٌ في الشرع على كلّ مسلمةٍ ومسلمٍ؛ بالغٍ عاقلٍ، ودليل ذلك قوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا)،[٤] أمّا دليل وجوب الصّلاة من السنَّة النبويّة؛ فهو حديث معاذ بن جبل -رضي الله عنه- حينما بعثه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- إلى اليمن، وقال له: (ادعُهم إلى شهادةِ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأنّي رسولُ اللهِ، فإن هم أطاعوا لذلك، فأَعْلِمْهم أنّ اللهَ قد افتَرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ)؛[٥] ولحديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (بُنِي الإسلام على خمسٍ: شهادةِ أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدًا رسول الله، وإقامِ الصّلاةِ، وإيتاءِ الزّكاةِ، وصومِ رمضانَ، وحجِّ البيتِ)،[٦] أمّا من الإجماع، فإنّ الأمّة أجمعت على وجوب الصلوات الخمس المعلومة في اليوم والليلة، وأنّها لا تجب على حائضٍ أو نُفساء.[٣
صفة صلاة الرّسول صلّى الله عليه وسلّم
أخذ العلماء صفة الصّلاة من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم؛ فإذا أراد الصّلاة كان يستقبل القبلة قائماً، وينوي الدخول في الصّلاة بقلبه، ثمّ يستفتح الصّلاة بتكبيرة الإحرام قائلاً: (الله أكبر)، ويرفع يديه مع التكبير، ثمّ بعد تكبيرة الإحرام يضع يده اليمنى فوق اليسرى على صدره، ويوجّه بصره إلى الأرض، ثمّ يقرأ دعاء الاستفتاح وله صيغٌ عديدةٌ مشهورة ومتنوّعة، تتلخّص كلها بحمد الله -تعالى- وتمجيده والثناء عليه، ثمّ يتعوّذ من الشيطان الرجيم، ويقرأ الفاتحة بادئاً بالبسملة -دون الجهر بها- وكان يقطع الفاتحة آيةً آيةً، وبعد انتهائه من قراءة الفاتحة يؤمِّن قائلاً: (آمين) جهراً ويمدُّ بها صوته، ويسكت هُنيهةً، ثمّ بعد ذلك يقرأ ما تيسّر له من القرآن الكريم غير الفاتحة.[٧]
وكان -صلّى الله عليه وسلّم- يجهر في القراءة إن كانت الصّلاة صُبحاً (صلاة الفجر)، ويجهر في أوّل ركعتين من صلاتَي المغرب والعشاء، ويُسرّ بباقيهما، كما يُسِرُّ في صلاتَي الظُّهر والعصر، كما كان يجهر في صلاة الجمعة وصلاة العيدين، والاستسقاء، وصلاة الكسوف، فإذا فرغ من القراءة رفع يديه وكبَّر وركع، ويطمئنّ في الركوع، وفيه يضع كفّيه على ركبتيه، ويمكِّنهما، فيفرِّج بين أصابعه، ويبسط ظهره ويجعله مستوياً، حتى إنّه لو صُبّ عليه الماء لبقي مُستقراً من شدّة استواء ظهره، وفي الرّكوع يقول: (سبحان ربّي العظيم) ثلاث مرّات، ثمّ يرفع ظهره قائماً قائلا: (سمع الله لمن حمده)، ويرفع يديه حينها معتدلاً، ثمّ يقول: (ربّنا ولك الحمد)، ثمّ يهوي ساجداً بعد أن يُكبّر، فيضع يديه على الأرض ويبسطهما، ويرتكز على كفّيه، ويوجّه أصابعه نحو القبلة ويضمّها، ويطمئنّ في سجوده وفي جميع انتقالاته في الصّلاة، ويقول أثناء السجود: (سبحان ربّي الأعلى) ثلاث مرّات، ويدعو ما شاء الله له أن يدعو، ويكرّر السجود مرّتين في كلّ ركعة على النحو نفسه، وفي الرّكوع كان يُمكِّن أنفَه وجبهته من الأرض، ويفرش رجله اليسرى فيقعد عليها مُطمئنّاً إذا جلس؛ وينصب اليمنى ويجعل أصابعها جهة القبلة.[٧]
وكان -صلّى الله عليه وسلّم- يقول بين السجدتين: (اللهمّ اغفر لي، وارحمنى، واجبُرني، وارفعني، واهدِني، وعافِني، وارزقني)، ثمّ ينهض للإتيان بالركعة الثانية على النحو نفسه، ثمّ يجلس للتشهد بعد الركعة الثانية، فيضع كفَّيه على فخذيه فيقبض اليمنى، ويبسط اليسرى ويُشير بالسبّابة اليُمنى موجّهاً نظره إليها، ويقرأ في كلّ ركعتين التحيّات، ويصلّي على نفسه، فإذا انتهت الصّلاة سلَّم عن يمينه وشماله قائلاً عند كل جهة: (السّلام عليكم ورحمة الله).[٧
حكمة تشريع الصّلاة وفائدتها
شُرِعت الصّلاة لشُكر أنعُم الله -سبحانه وتعالى- العديدة الكثيرة، كما أنّ لها العديد من الفوائد الدينيّة والتربويّة، ويظهر أثر هذه الفوائد على الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء، ومن أبرز تلك الفوائد عقد الصلة الدائمة بين العبد وخالقه، وما فيها من لذّة مناجاة الله ودعائه وقت الحاجة، وإظهار العبوديّة والافتقار له سبحانه وتعالى، وتفويض جميع أموره له، وهي السبيل الأوحد للفوز برضى الله سبحانه وتعالى، وسببٌ لتكفير الذنوب والآثام، ومن فوائدها كذلك التقرب إلى الله -سبحانه وتعالى- وذلك بمعراج النفس البشريّة إلى خالقها، وفيها كذك السموّ عن الدنيا بمظاهرها الزائلة، وتقوية النفس البشريّة، وتعزيز الإرادة، كما تدعو إلى الترفُّع عن مغريات الدنيا وملذّاتها.[٨]
ومن فوائد الصّلاة الاجتماعيّة إقرار العقيدة الراسخة من خلال إيمان المجتمع بجميع أطيافه ومكوناته بالله، وفيها تنظيمٌ للجماعة، وتعزيزٌ لتماسكها حول العقيدة التي توصلهم الصّلاة إليها، وفيها تنمية روابط الانتماء إلى الوطن والأمة بمجموعها، وتحقيق التضامن الاجتماعي والمجتمعي، وفي الصّلاة تدريبٌ على النظام وحبّه والالتزام به في جميع الأعمال والشؤون الحياتيّة، كما تدعو الصّلاة إلى احترا م الوقت وتُدلّل على أهميّته؛ حيث تُؤدّى في أوقات منظّمة محدّدة، وبالصّلاة كذلك يتعلّم المرء خصال الحلم، ويتمرَّن عليها، ويصل من خلالها إلى الأناة والسّكينة والاستقرار والوقار، ويوطّن نفسَه على حصر الذّهن فيما فيه نفعٌ وفائدة، ممّا يؤدي إلى تركيز الانتباه في معاني آيات كتاب الله، كما تؤدّي إلى الاستدلال إلى عظمة الله، وهي كذلك مدرسةٌ من الأخلاق العمليّة الانضباطيّة، وفيها يتربى المسلم على الصدق، والفضائل جميعها، والأمانة، وهي كذلك تنهى عن الفحشاء والمنكَر.[٨