فضل كثرة الذكر من علي موقع لحظات ورد عن بعض الصحابة كعبد الله بن عباس رضي الله عنهما وغيره قالوا: كان إدريس عليه السلام خياطاً، يخيط الأقمشة، قالوا: ما غرس الإبرة في مكان -يعني ما بين الثقبين- إلا قال: سبحان الله، فقال له الله في ليلة من الليالي عند المساء: يا إدريس، لأرفعنك مكاناً علياً، فبكى وسجد، قال: ولم يا رب! وقد رفعتني في الدنيا رفعةً ما بعدها رفعة- نبي من الأنبياء، ورسول من الرسل- قال: لقد نظرت إلى صحائف الناس كل ليلة فوجدتك دائماً أكثر الناس تسبيحاً واستغفاراً.
فضل كثرة الذكر
قال ابنُ قَـيِّـمِ الجوزية – رحمه الله – : وفي الذكر أكثر من مئة فائدة :
إحداها : أنه يطرد الشيطان ، ويقمعه ، ويكسره .
الثانية : أنه يرضي الرحمن – عز وجل – .
الثالثة : أنه يزيل الهم والغم عن القلب .
الرابعة : أنه يجلب للقلب : الفرح ، والسرور ، والبسط .
الخامسة : أنه يقوى القلب والبدن .
السادسة : أنه ينور الوجه والقلب .
السابعة : أنه يجلب الرزق .
الثامنة : أنه يكسو الذاكر : المهابةَ ، والحلاوةَ ، والنضرةَ .
التاسعة : أنه يورثه المحبة التي هي روح الإسلام ، وقطب رحى الدين ، ومدار السعادة والنجاة ، وقد جعل الله لكل شيء سببا ، وجعل سبب المحبة دوام الذكر ؛ فمن أراد أن ينال محبة الله – عز وجل – ؛ فليلهج بذكره ، فإنه الدرس والمذاكرة كما أنه باب العلم ، فالذكر باب المحبة وشارعها الأعظم ، وصراطها الأقوم .
العاشرة : أنه يورثه المراقبة حتى يدخله في باب الإحسان ، فيعبد الله كأنه يراه ، ولا سبيل للغافل عن الذكر إلى مقام الإحسان ، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت .
الحادية عشرة : أنه يورثه الإنابة ، وهي الرجوع إلى الله – عز وجل – ، فمتى أكثر الرجوع إليه بذكره = أورثه ذلك رجوعَه بقلبه إليه في كل أحواله ، فيبقى الله – عز وجل – مفزعه ، وملجأه ، وملاذه ، ومعاذه ، وقبلة قلبه ، ومهربه عند النوازل والبلايا .
الثانية عشرة : أنه يورثه القربَ منه ، فعلى قدر ذكره لله – عز وجل – يكون قربه منه ، وعلى قدر غفلته يكون بعده منه .
الثالثة عشرة : أنه يفتح له بابا عظيما من أبواب المعرفة ، وكلما أكثر من الذكر ازداد من المعرفة .
الرابعة عشرة : أنه يورثه الهيبةَ لربه – عز وجل – وإجلاله ؛ لشدة استيلائه على قلبه وحضوره مع الله – تعالى – ، بخلاف الغافل ، فإن حجاب الهيبة رقيق في قلبه .
الخامسة عشرة : أنه يورثه ذكر الله – تعالى – له كما قال تعالى : ( فاذكروني أذكركم ) ، ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلا وشرفا . وقال – صلى الله عليه وسلم – فيما يروي عن ربه – تبارك وتعالى – : ” من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ” .
السادسة عشرة : أنه يورث حياةَ القلب ، وسمعت شيخَ الاسلام ابن تيمية – قدس الله تعالى روحه – يقول : الذكر للقلب مثل الماء للسمك ، فكيف يكون حال السمك إذا فارق الماء ؟ .
السابعة عشرة : أنه قوت القلب والروح ، فإذا فقده العبد صار بمنزلة الجسم إذا حيل بينه وبين قوته ، وحضرت شيخ الاسلام ابن تيمية – مرة – صلى الفجر ثم جلس يذكر الله – تعالى – إلى قريب من انتصاف النهار ، ثم التفت إلي وقال : هذه غدوتي ، ولو لم أتغد الغداء سقطت قوتي ، أو كلاماً قريباً من هذا .
وقال لي مرة: لا أترك الذكر إلا بنية إجمام نفسي وإراحتها ؛ لأستعد بتلك الراحة لذكر آخر ، أو كلاماً هذا معناه .
الثامنة عشرة : أنه يورث جلاء القلب من صداه ، كما تقدم في الحديث ، وكل صدأ ، وصدأ القلب : الغفلةُ والهوى ، وجلاؤه الذكر ، والتوبة ، والاستغفار ، وقد تقدم هذا المعنى.
التاسعة عشرة : أنه يحط الخطايا ويذهبها ، فإنه من أعظم الحسنات ، والحسنات يذهبن السيئات .
العشرون : أنه يزيل الوحشة بين العبد وبين ربه – تبارك وتعالى – ، فإن الغافل بينه وبين الله – عز وجل – وحشة لا تزول إلا بالذكر .
الحادية والعشرون : أن ما يذكر به العبد ربه – عز وجل – من جلاله وتسبيحه وتحميده يذكر بصاحبه عند الشدة .
الثانية والعشرون : أن العبد إذا تعرف إلى الله – تعالى – بذكره في الرخاء عرفه في الشده ، وقد جاء أثر معناه أن العبد المطيع الذاكر لله – تعالى – إذا أصابته شدة ، أو سأل الله – تعالى – حاجة قالت الملائكة : يا رب ! صوت معروف ، من عبد معروف ، والغافل المعرض عن الله – عز وجل – إذا دعاه وسأله قالت الملائكة : يا رب ! صوت منكر ، من عبد منكر .
الثالثة والعشرون : أنه ينجي من عذاب الله – تعالى – .
الرابعة والعشرون : أنه سبب تنزيل السكينة ، وغشيان الرحمة ، وحفوف الملائكة بالذاكر كما أخبر به النبي – صلى الله عليه وسلم – .
الخامسة والعشرون : أنه سبب اشتغال اللسان عن الغيبة ، والنميمة ، والكذب ، والفحش ، والباطل ، فإن العبد لا بد له من أن يتكلم ، فإن لم يتكلم بذكر الله – تعالى – وذكر أوامره تكلم بهذه المحرمات ، أو بعضها ، ولا سبيل الى السلامة منها البتة إلا بذكر الله – تعالى – ، والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك ، فمن عود لسانه ذكر الله = صان لسانه عن الباطل واللغو ، ومن يبس لسانه عن ذكر الله – تعالى – ترطب بكل باطل ، ولغو ، وفحش ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .
السادسة والعشرون : أن مجالس الذكر مجالس الملائكة ، ومجالس اللغو والغفلة ومجالس الشياطين ؛ فليتخير العبد أعجبهما إليه ، وأولاهما به ، فهو مع أهله في الدنيا والآخرة .
السابعة والعشرون : أنه يسعد الذاكر بذكره ويسعد به جليسه ، وهذا هو المبارك أين ما كان ، والغافل واللاغي يشقى بلغوه ، وغفلته ، ويشقى به مجالسه .
الثامنة والعشرون : أنه يؤمن العبد من الحسرة يوم القيامة ، فإن كل مجلس لا يذكر العبد فيه ربه – تعالى – كان عليه حسرة وترة يوم القيامة .
التاسعة والعشرون : أنه مع البكاء في الخلوة سبب لإظلال الله تعالى العبد يوم الحر الأكبر في ظل عرشه ، والناس في حر الشمس قد صهرتهم في الموقف ، وهذا الذاكر مستظل بظل عرش الرحمن – عز وجل – .
الثلاثون : أن الاشتعال به سبب لعطاء الله للذاكر أفضل ما يعطي السائلين .
الحادية والثلاثون : أنه أيسر العبادات ، وهو من أجلها وأفضلها ، فإن حركة اللسان أخف حركات الجوارح وأيسرها ، ولو تحرك عضو من الانسان في اليوم والليلة بقدر حركة لسانه لشق عليه غاية المشقة ، بل لا يمكنه ذلك .
الثانية والثلاثون : أنه غراس الجنة .
الثالثة والثلاثون : أن العطاء والفضل الذي رتب عليه لم يرتب على غيره من الأعمال .
الرابعة والثلاثون : أن دوام ذكر الرب – تبارك وتعالى – يوجب الأمان من نسيانه الذي هو سبب شقاء العبد في معاشه ومعاده ، فإن نسيان الرب – سبحانه وتعالى – يوجب نسيان نفسه ومصالحها .
الخامسة والثلاثون : أن الذكر يسير العبد هو في فراشه ، وفي سوقه ، وفي حال صحته وسقمه ، وفي حال نعيمه ولذته ، وليس شيء يعم الأوقات والأحوال مثله ، حتى يسير العبد وهو نائم على فراشه ، فيسبق القائم مع الغفلة ، فيصبح هذا وقد قطع الركب وهو مستلق على فراشه ، ويصبح ذلك الغافل في ساقة الركب ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء .
السادسة والثلاثون : أن الذكر نور للذاكر في الدنيا ، ونور له في قبره ، ونور له في معاده يسعى بين يديه على الصراط ، فما استنارت القلوب والقبور بمثل ذكر الله – تعالى – ، قال الله تعالى : ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) ، فالأول هو المؤمن استنار بالايمان بالله ومحبته ومعرفته وذكره ، والآخر هو الغافل عن الله – تعالى – المعرض عن ذكره ومحبته ، والشأن كل الشأن والفلاح كل الفلاح في النور ، والشقاء كل الشقاء في فواته .
السابعة والثلاثون : أن الذكر رأس الأصول ، وطريق عامة الطائفة ومنشور الولاية : فمن فتح له فيه فقد فتح له باب الدخول على الله – عز وجل – ، فليتطهر وليدخل على ربه – عز وجل – يجد عنده كل ما يريد ، فإن وجد ربه – عز وجل – وجد كل شيء ، وإن فاته ربه – عز وجل – فاته كل شيء .
الثامنة والثلاثون : في القلب خلة وفاقه لا يسدها شيء البته إلا ذكر الله – عز وجل – ، فإذا صار شعار القلب بحيث يكون هو الذاكر بطريق الأصالة واللسان تبع له ، فهذا هو الذكر الذي يسد الخلة ويفني الفاقه ، فيكون صاحبه غنيا بلا مال ، عزيزا بلا عشيرة ، مهيبا بلا سلطان ، فإذا كان غافلا عن ذكر الله – عز وجل – فهو بضد ذلك فقير مع كثرة جدته ، ذليل مع سلطانه ، حقير مع كثرة عشيرته .
التاسعة والثلاثون : أن الذكر يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ، ويقرب البعيد ويبعد القريب ، فيجمع ما تفرق على العبد من قلبه وإرادته وهمومه وعزومه ، والعذاب كل العذاب في تفرقتها وتشتتها عليه وانفراطها له ، والحياة والنعيم في اجتماع قلبه وهمه وعزمه وإرادته .
الأربعون : أن الذكر ينبه القلب من نومه ، ويوقظه من سنته ، والقلب إذا كان نائماً فاتته الأرباح والمتاجر وكان الغالب عليه الخسران ، فإذا استيقظ وعلم ما فاته في نومته شد المئزر وأحيا بقية عمره واستدرك ما فاته ، ولا تحصل يقظته إلا بالذكر ، فإن الغفلة نوم ثقيل .
الحادية والأربعون : أن الذكر شجرة تثمر المعارف والأحوال التي شمر إليها السالكون ، فلا سبيل إلى نيل ثمارها إلا من شجرة الذكر ، وكلما عظمت تلك الشجرة ورسخ أصلها كان أعظم لثمرتها ، فالذكر يثمر المقامات كلها من اليقظة إلى التوحيد ، وهو أصل كل مقام وقاعدته التي ينبي ذلك المقام عليها ، كما يبني الحائط على رأسه وكما يقوم السقف على حائطه ، وذلك أن العبد أن لم يستيقظ لم يمكنه قطع منازل السير ، ولا يستيقط إلا بالذكر – كما تقدم – ، فالغفلة نوم القلب أو موته .
الثانية والأربعون : أن الذكر قريب من مذكوره ، ومذكوره معه ، وهذه المعية معية خاصة غير معية العلم والإحاطة العامة ، فهي معية بالقرب والولاية والمحبة النصرة والتوفيق ، كقوله تعالى : ( إن الله مع الذين اتقوا ) ، ( والله مع الصابرين ) ، ( وإن الله لمع المحسنين ) ، ( لا تحزن إن الله معنا ) ، وللذاكر من هذه المعية نصيب وافر .
الثالثة والأربعون : أن الذكر يعدل عتق الرقاب ونفقة الأموال والحمل على الخيل في سبيل الله – عز وجل – ، ويعدل الضرب بالسيف في سبيل الله – عز وجل – .
الرابعة والأربعون : أن الذكر رأس الشكر ، فما شكر الله – تعالى – من لم يذكره .
الخامسة والأربعون : أن أكرم الخلق على الله – تعالى – من المتقين من لا يزال لسانه رطبا بذكره ، فإنه اتقاه في أمره ونهيه وجعل ذكره شعاره ؛ فالتقوى أوجبت له دخول الجنة والنجاة من النار ، وهذا هو الثواب والأجر ، والذكر يوجب له القرب من الله – عز وجل – والزلفى لديه ، وهذه هي المنزلة .
السادسة والأربعون : أن في القلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله – تعالى – ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله – تعالى – ، وذكر حماد بن زيد عن المعلى ابن زياد أن رجلا قال للحسن : يا أبا سعيد ! أشكو إليك قسوة قلبي .قال : أذبه بالذكر .
وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة ، اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله – تعالى – ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار ، فما أذيبت قسوة القلوب بمثل ذكر الله – عز وجل – .
السابعة والأربعون : أن الذكر شفاء القلب ودواؤه ، والغفلة مرضه ، فالقلوب مريضة وشفاؤها دواؤها في ذكر الله – تعالى – .
قال مكحول : ذكر الله تعالى شفاء ، وذكر الناس داء .
الثامنة والأربعون : أن الذكر أصل موالاة الله – عز وجل – ورأسها ، والغفلة أصل معاداته ورأسها ، فإن العبد لا يزال يذكر ربه – عز وجل – حتى يحبه فيواليه ، ولا يزال يغفل عنه حتى يبغضه فيعاديه .
التاسعة والأربعون : أنه ما استجلبت نعم الله – عز وجل – واستدفعت نقمة بمثل ذكر الله – تعالى – ، فالذكر جلاب للنعم ، دافع للنقم .
الخمسون : أن الذكر يوجب صلاة الله – عز وجل – وملائكته على الذاكر ، ومن صلى الله – تعالى – عليه وملائكته فقد أفلح كل الفلاح ، وفاز كل الفوز .
الحادية والخمسون : أن من شاء أن يسكن رياض الجنة في الدنيا ؛ فليستوطن مجالس الذكر ، فإنها رياض الجنة .
الثانية والخمسون : أن مجالس الذكر مجالس ملائكة ، فليس من مجالس الدنيا لهم مجلس إلا مجلس يذكر الله – تعالى – فيه .
الثالثة والخمسون : أن الله – عز وجل – يباهي بالذاكرين ملائكته .
الرابعة والخمسون : أن مدمن الذكر يدخل الجنة وهو يضحك .
الخامسة والخمسون : إن جميع الأعمال إنما شرعت إقامة لذكر الله – تعالى – ، والمقصود بها تحصيل ذكر الله – تعالى -، قال سبحانه وتعالى : ( وأقم الصلاة لذكري ) .
السادسة والخمسون : أن أفضل أهل كل عمل أكثرهم فيه ذكرا لله – عز وجل – ، فأفضل الصوام أكثرهم ذكرا لله – عز وجل – في صومهم ، وأفضل المتصدقين أكثرهم ذكرا لله – عز وجل – ، وأفضل الحاج أكثرهم ذكرا لله – عز وجل – ، وهكذا سائر الأحوال .
السابعة والخمسون : أن إدامته تنوب عن التطوعات وتقوم مقامها سواء كانت بدنية، أو مالية كحج التطوع .
الثامنة والخمسون : أن ذكر الله – عز وجل – من أكبر العون على طاعته ، فإنه يحببها إلى العبد ، ويسهلها عليه ، ويلذذها له ويجعل قرة عينه فيها، ونعيمه وسروره بها بحيث لا يجد لها من الكلفة والمشقة والثقل ما يجد الغافل ، والتجربة شاهدة بذلك .
التاسعة والخمسون : أن ذكر الله – عز وجل – يسهل الصعب ، وييسر العسير ويخفف المشاق ، فما ذكر الله – عز وجل – على صعب إلا هان ، ولا على عسير إلا تيسر ، ولا مشقة إلا خفت ، ولا شدة إلا زالت ، ولا كربة إلا انفرجت ، فذكر الله – تعالى – هو الفرج بعد الشدة ، واليسر بعد العسر ، والفرج بعد الغم والهم .
الستون : أن ذكر الله -عز وجل – يذهب عن القلب مخاوفه كلها ، وله تأثير عجيب في حصول الأمن ، فليس للخائف الذي قد اشتد خوفه أنفع من ذكر الله – عز وجل – ، إذ بحسب ذكره يجد الأمن ويزول خوفه ، حتى كأن المخاوف التي يجدها أمان له ، والغافل خائف مع أمنه حتى كأن ما هو فيه من الأمن كله مخاوف ، ومن له أدنى حس قد جرب هذا وهذا ، والله المستعان .
الحادية والستون : أن الذكر يعطي الذاكر قوة ، حتى إنه ليفعل مع الذكر ما لم يظن فعله بدونه ، وقد شاهدت من قوة شيخ الإسلام ابن تيمية في سننه وكلامه وإقدامه وكتابه أمرا عجيبا ، فكان يكتب في اليوم من التصنيف ما يكتبه الناسخ في جمعه وأكثر ، وقد شاهد العسكر من قوته في الحرب أمرا عظيما ، وقد علم النبي – صلى الله عليه وسلم – ابنته فاطمة وعليا – رضي الله عنهما – أن يسبحا كل ليلة إذا أخذوا مضاجعهما ثلاثا وثلاثين ، ويحمدا ثلاثا وثلاثين ، ويكبرا أربعا وثلاثين ؛ لما سألته الخادم وشكت إليه ما تقاسيه من الطحن والسعي والخدمة ، فعلمها ذلك وقال : إنه خير لكما من خادم .
فقيل : إن من داوم على ذلك وجد قوة في يومه مغنيه عن خادم .
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – يذكر أثرا في هذا الباب ويقول : إن الملائكة لما أمروا بحمل العرش قالوا : يا ربنا كيف نحمل عرشك وعليه عظمتك وجلالك ؟ فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فلما قالوا حملوه .
الثانية والستون : أن عمال الآخرة كلهم في مضمار السباق ، والذاكرون هم أسبقهم في ذلك المضمار ، ولكن القترة والغبار يمنع من رؤية سبقهم ، فإذا انجلى الغبار وانكشف رآهم الناس وقد حازوا قصب السبق .
الثالثة والستون : أن الذكر سبب لتصديق الرب – عز وجل – عبده، فإنه أخبر عن الله – تعالى – بأوصاف كماله ونعوت جلاله ، فإذا أخبر بها العبد صدقه ربه ، ومن صدقه الله – تعالى – لم يحشر مع الكاذبين ، ورجي له أن يحشر مع الصادقين .
الرابعة والستون : أن دور الجنة تبنى بالذكر ، فإذا أمسك الذاكر عن الذكر أمسكت الملائكة عن البناء .
الخامسة والستون : إن الذكر سد بين العبد وبين جهنم ، فإذا كانت له إلى جهنم طريق من عمل من الأعمال كان الذكر سدا في تلك الطريق ، فإذا كان ذكرا دائما كاملا كان سدا محكما لا منفذ فيه ، وإلا فبحسبه .
السادسة والستون : أن الملائكة تستغفر للذاكر كما تستغفر للتائب .
السابعة والستون : أن الجبال والقفار تتباهى وتستبشر بمن يذكر الله – عز وجل – عليها.
الثامنة والستون : أن كثرة ذكر الله – عز وجل – أمان من النفاق ، فإن المنافقين قليلو الذكر لله – عز وجل – ، قال الله – عز وجل – في المنافقين : ( ولا يذكرون الله إلا قليلا ) .
التاسعة والستون : أن للذكر من بين الأعمال لذة لا يشبهها شيء ، فلو لم يكن للعبد من ثوابه إلا اللذة الحاصلة للذاكر والنعيم الذي يحصل لقلبه ؛ لكفى به ؛ ولهذا سميت مجالس الذكر ” رياض الجنة ” .
السبعون : أن نه يكسو الوجه نضرة في الدنيا ونورا في الآخرة ، فالذاكرون أنضر الناس وجوها في الدنيا وأنورهم في الآخرة .
الحادية والسبعون : أن في دوام الذكر في الطريق والبيت والحضر والسفر والبقاع تكثيرا لشهود العبد يوم القيامة ، فإن البقعة والدار والجبل والأرض تشهد للذاكر يوم القيامة .
الثانية والسبعون : أن في الاشتغال بالذكر اشتغالا عن الكلام الباطل من الغيبة واللغو ومدح الناس وذمهم وغير ذلك ، فإن الإنسان لا يسكت البتة : فإما لسان ذاكر ، وإما لسان لاغ ، ولا بد من أحدهما ، فهي النفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل ، وهو القلب إن لم تسكنه محبة الله – عز وجل – سكنه محبة المخلوقين ولا بد ، وهو اللسان إن لم تشغله بالذكر شغلك باللغو وما هو عليك ولا بد ، فاختر لنفسك إحدى الخطتين ، وأنزلهها في إحدى المنزلتين .
الثالثة والسبعون : وهي التي بدأنا بذكرها وأشرنا إليها فنذكرها ههنا مبسوطة لعظيم الفائدة بها ، وحاجة كل أحد بل ضرورته إليها ، وهي أن الشياطين قد احتوشت العبد وهم أعداؤه فما ظنك برجل قد احتوشه أعداؤه المحنقون عليه غيظا وأحاطوا به ؟ ، وكل منهم يناله بما يقدر عليه من الشر والأذى ، ولا سبيل إلى تفريق جمعهم عنه إلا بذكر الله – عز وجل – .
الرابعة والسبعون : أنه يجعل الدعاء مستجابا .